سورة هود - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ، جاءوا إلى لوط. فلما رآهم لوط، وكانوا في صورة غلمان حسان مرد، {سِئ بِهِمْ} أي: ساءه مجيئهم، يقال: ساءه يسوءه، وأصل سيء بهم. سويء بهم، نقلت حركة الواو إلى السين فقلبت الواو ياء، ولما خففت الهمزة ألقيت حركتها على الياء. وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وأبو عمرو بإشمام السين الضم {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} قال الأزهري: الذرع يوضع موضع الطاقة، وأصله أن البعير يذرع بيده في سيره على قدر سعة خطوه: أي يبسطها، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته، ضاق ذرعه عن ذلك، فجعل ضيق الذرع كناية عن قلة الوسع والطاقة وشدّة الأمر. وقيل: هو من ذرعه القيء: إذا غلبه وضاق عن حبسه. والمعنى: أنه ضاق صدره لما رأى الملائكة في تلك الصورة خوفاً عليهم من قومه، لما يعلم من فسقهم وارتكابهم لفاحشة اللواط {وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} أي: شديد. قال الشاعر:
وإنك إن لم ترض بكر بن وائل *** يكن لك يوم بالعراق عصيب
يقال عصيب وعصيصب وعصوصب على التكثير، أي: يوم مكروه يجتمع فيه الشر، ومنه قيل: عصبة وعصابة: أي مجتمعو الكلمة، ورجل معصوب: أي مجتمع الخلق {وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} أي: جاءوا لوطاً. الجملة في محل نصب على الحال. ومعنى {يهرعون إليه}: يسرعون إليه. قال الكسائي، والفراء، وغيرهما من أهل اللغة: لا يكون الإهراع إلا إسراعاً مع رعدة، يقال: أهرع الرجل إهراعاً: أي أسرع في رعدة من برد أو غضب أو حمى، قال مهلهل:
فجاؤوا يهرعون وهم أسارى *** نهودهم على رغم الأنوف
وقيل: يهرعون: يهرولون. وقيل: هو مشي بين الهرولة والعدو، والمعنى: أن قوم لوط لما بلغهم مجيء الملائكة في تلك الصورة أسرعوا إليه، كأنما يدفعون دفعاً لطلب الفاحشة من أضيافه {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} أي: ومن قبل مجيء الرسل في هذا الوقت، كانوا يعملون السيئات. وقيل: ومن قبل لوط كانوا يعملون السيئات، أي: كانت عادتهم إتيان الرجال، فلما جاءوا إلى لوط، وقصدوا أضيافه لذلك العمل، قام إليهم لوط مدافعاً {وَقَالَ ياقَوْمٌ هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} أي: تزوّجوهنّ، ودعوا ما تطلبونه من الفاحشة بأضيافي، وقد كان له ثلاث بنات. وقيل: اثنتان، وكانوا يطلبون منه أن يزوجهم بهنّ، فيمتنع لخبثهم، وكان لهم سيدان مطاعان، فأراد أن يزوجهما بنتيه. وقيل: أراد بقوله: {هؤلاءآء بَنَاتِى} النساء جملة، لأن نبيّ القوم أب لهم، وقالت طائفة: إنما كان هذا القول منه على طريق المدافعة، ولم يرد الحقيقة. ومعنى: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} أي: أحلّ وأنزه.
والتطهر: التنزه عما لا يحلّ، وليس في صيغة أطهر دلالة على التفضيل، بل هي مثل الله أكبر. وقرأ الحسن، وعيسى بن عمر بنصب {أطهر} وقرأ الباقون بالرفع؛ ووجه النصب أن يكون اسم الإشارة مبتدأ، وخبره {بناتي} و{هنّ} ضمير فصل، و{أطهر} حال.
وقد منع الخليل، وسيبويه، والأخفش مثل هذا، لأن ضمير الفصل الذي يسمى عماداً إنما يكون بين كلامين بحيث لا يتمّ الكلام إلا بما بعدها، نحو كان زيد هو أخاك {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى} أي: اتقوا الله بترك ما تريدون من الفاحشة بهم، ولا تذلوني وتجلبوا عليّ العار في ضيفي، والضيف يطلق على الواحد والاثنين والجماعة، لأنه في الأصل مصدر، ومنه قول الشاعر:
لا تعدمي الدهر شفار الجازر *** للضيف والضيف أحق زائر
ويجوز فيه التثنية والجمع، والأوّل: أكثر. يقال: خزي الرجل خزاية، أي استحيا أو ذلّ أو هان، وخزي خزياً: إذا افتضح، ومعنى {في ضيفي}: في حق ضيفي، فخزي الضيف: خزي للمضيف، ثم وبخهم فقال: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} يرشدكم إلى ترك هذا العمل القبيح، ويمنعكم منه، فأجابوا عليه معرضين عما نصحهم به، وأرشدهم إليه، بقوله: {مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ} أي: ما لنا فيهم من شهوة ولا حاجة، لأن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق. ومعنى ما نسبوه إليه من العلم أنه قد علم منهم المكالبة على إتيان الذكور، وشدّة الشهوة إليهم، فهم من هذه الحيثية كأنهم لا حاجة لهم إلى النساء؛ ويمكن أن يريدوا: أنه لا حق لنا في نكاحهنّ؛ لأنه لا ينكحهنّ ويتزوج بهن إلا مؤمن، ونحن لا نؤمن أبداً. وقيل: إنهم كانوا قد خطبوا بناته من قبل فردّهم، وكان من سنتهم أن من خطب فردّ، فلا تحل المخطوبة أبداً {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} من إتيان الذكور.
ثم إنه لما علم تصميمهم على الفاحشة، وأنهم لا يتركون ما قد طلبوه {قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً} وجواب {لو} محذوف. والتقدير: لدافعتكم عنهم ومنعتكم منهم، وهذا منه عليه السلام على طريق التمني: أي لو وجدت معيناً وناصراً، فسمي ما يتقوّى به قوّة {أَوْ آوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} عطف على ما بعد {لو} لما فيه من معنى الفعل، والتقدير: لو قويت على دفعكم، أو آويت إلى ركن شديد. وقرئ: {أو آوى} بالنصب عطفاً على قوّة كأنه قال: لو أن لي بكم قوّة، أو إيواء إلى ركن شديد، ومراده بالركن الشديد: العشيرة، وما يمتنع به عنهم هو ومن معه. وقيل: أراد بالقوّة: الولد، وبالركن الشديد: من ينصره من غير ولده. وقيل: أراد بالقوّة: قوته في نفسه. ولما سمعته الملائكة يقول هذه المقالة، ووجدوا قومه قد غلبوه وعجز عن مدافعتهم {قَالُواْ يالُوطٍ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ} أخبروه أوّلاً أنهم رسل ربه، ثم بشّروه بقولهم: {لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ} وهذه الجملة موضحة لما قبلها؛ لأنهم إذا كانوا مرسلين من عند الله إليه لم يصل عدوّه إليه ولم يقدروا عليه، ثم أمروه أن يخرج عنهم، فقالوا له: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل} قرأ نافع وابن كثير بالوصل، وقرأ غيرهما بالقطع، وهما لغتان فصيحتان.
قال الله تعالى: {واليل إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] وقال: {سُبْحَانَ الذى أسرى} [الإسراء: 1] وقد جمع الشاعر بين اللغتين فقال:
حي النضير وربة الخدر *** أسرت عليه ولم تكن تسري
وقيل: إن أسرى للمسير من أول الليل، وسرى للمسير من آخره، والقطع من الليل: الطائفة منه. قال ابن الأعرابي: {بقطع من الليل}: بساعة منه.
وقال الأخفش: بجنح من الليل. وقيل: بظلمة من الليل. وقيل: بعد هدوّ من الليل، قيل: إن السرى لا يكون إلا في الليل، فما وجه زيادة بقطع من الليل؟ قيل: لو لم يقل بقطع من الليل لجاز أن يكون في أوّله قبل اجتماع الظلمة، وليس ذلك بمراد {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} أي: لا ينظر إلى ما وراءه، أو يشتغل بما خلفه من مال أو غيره. قيل: وجه النهي عن الالتفات أن لا يروا عذاب قومهم، وهول ما نزل بهم، فيرحموهم ويرقوا لهم، أو لئلا ينقطعوا عن السير المطلوب منهم بما يقع من الالتفات، فإنه لا بدّ للملتفت من فترة في سيره {إِلاَّ امرأتك} بالنصب على قراءة الجمهور، وقرأ أبو عمرو، وابن كثير بالرفع على البدل، فعلى القراءة الأولى امرأته مستثناة من قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} أي: أسر بأهلك جميعاً إلا امرأتك فلا تسر بها، فإنه {مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} من العذاب، وهو رميهم بالحجارة لكونها كانت كافرة. وأنكر قراءة الرفع جماعة منهم أبو عبيد وقال: لا يصح ذلك إلا برفع {يلتفت} ويكون نعتاً، لأن المعنى يصير إذا أبدلت وجزمت أن المرأة أبيح لها الالتفات وليس المعنى كذلك. قال النحاس: وهذا العمل من أبي عبيد وغيره على مثل أبي عمرو مع جلالته ومحله من العربية لا يجب أن يكون، والرفع على البدل له معنى صحيح، وهو أن يكون استثناء من النهي عن الالتفات، أي لا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك، فإنها تلتفت وتهلك. وقيل: إن الرفع على البدل من {أحد} ويكون الالتفات بمعنى التخلف لا بمعنى النظر إلى الخلف، فكأنه قال: ولا يتخلف منكم أحد إلا امرأتك، فإنها تتخلف، والملجئ إلى هذا التأويل البعيد الفرار من تناقض القراءتين، والضمير في {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} للشأن، والجملة خبر إنّ {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} هذه الجملة تقليل لما تقدّم من الأمر بالإسراء والنهي عن الالتفات، والمعنى: أن موعد عذابهم الصبح المسفر عن تلك الليلة، والاستفهام في {أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} للإنكار التقريري، والجملة تأكيد للتعليل.
وقرأ عيسى بن عمر {أليس الصبح} بضم الباء وهي لغة، ولعلّ جعل الصبح ميقاتاً لهلاكهم لكون النفوس فيه أسكن، والناس فيه مجتمعون لم يتفرّقوا إلى أعمالهم.
{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} أي: الوقت المضروب لوقوع العذاب فيه، أو المراد بالأمر: نفس العذاب {جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا} أي: عالي قرى قوم لوط سافلها، والمعنى: أنه قلبها على هذه الهيئة، وهي كون عاليها صار سافلها، وسافلها صار عاليها، وذلك لأن جبريل أدخل جناحه تحتها فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء ثم قلبها عليهم {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ} قيل: إنه يقال أمطرنا في العذاب ومطرنا في الرحمة. وقيل: هما لغتان، يقال: مطرت السماء وأمطرت حكى ذلك الهروي. والسجيل: الطين المتحجر بطبخ أو غيره. وقيل: هو الشديد الصلب من الحجارة. وقيل: السجيل الكثير. وقيل: إن السجيل لفظة غير عربية، أصله سج وجيل، وهما بالفارسية حجر وطين عرّبتهما العرب فجعلتهما اسماً واحداً. وقيل: هو من لغة العرب. وذكر الهروي: أن السجيل اسم لسماء الدنيا. قال ابن عطية: وهذا ضعيف يردّه وصفه بمنضود. وقيل: هو بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض. وقيل: هي جبال في السماء.
وقال الزجاج: هو من التسجيل لهم، أي ما كتب لهم من العذاب فهو في معنى سجين، ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ * كتاب مَّرْقُومٌ} [المطففين: 8، 9] وقيل: هو من أسجلته: إذا أعطيته، فكأنه عذاب أعطوه، ومنه قول الشاعر:
من يساجلني يساجل ماجدا *** يملأ الدلو إلى عقد الكرب
ومعنى: {مَّنْضُودٍ}: أنه نضد بعضه فوق بعض. وقيل: بعضه في أثر بعض، يقال: نضدت المتاع: إذا جعلت بعضه على بعض، فهو منضود ونضيد، والمسوّمة: المعلمة، أي التي لها علامة: قيل كان عليها أمثال الخواتيم. وقيل: مكتوب على كل حجر اسم من رمى به.
وقال الفراء: زعموا أنها كانت مخططة بحمرة وسواد في بياض. فذلك تسويمها، ومعنى: {عِندَ رَبّكَ} في خزائنه {وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} أي: وما هذه الحجارة الموصوفة من الظالمين وهم قوم لوط ببعيد، أو ما هي من كل ظالم من الظلمة ومنهم كفار قريش ومن عاضدهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ببعيد، فهم لظلمهم مستحقون لها. وقيل: {وَمَا هِىَ} أي: قرى {مِنَ الظالمين} من كفر بالنبيّ صلى الله عليه وسلم {بِبَعِيدٍ} فإنها بين الشام والمدينة. وفي إمطار الحجارة قولان: أحدهما: أنها أمطرت على المدن حين رفعها جبريل. والثاني: أنها أمطرت على من لم يكن في المدن من أهلها، وكان خارجاً عنها.
وتذكير البعيد على تأويل الحجارة بالحجر، أو إجراء له على موصوف مذكر: أي شيء بعيد، أو مكان بعيد، أو لكونه مصدراً كالزفير والصهيل، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِئ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} قال: ساء ظناً بقومه، وضاق ذرعاً بأضيافه {وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} يقول: شديد.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه، في قوله: {يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} قال: يسرعون {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} قال: يأتون الرجال.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، أيضاً قال: {يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} يستمعون إليه.
وأخرج أبو الشيخ، عنه، أيضاً في قوله: {هؤلاءآء بَنَاتِى} قال: ما عرض لوط بناته على قومه لا سفاحاً ولا نكاحاً، إنما قال: هؤلاء نساؤكم، لأن النبيّ إذا كان بين ظهراني قوم فهو أبوهم، قال الله تعالى في القرآن: {وأزواجه أمهاتهم وهو أبوهم} في قراءة أبيّ.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال: لم تكن بناته ولكن كنّ من أمته، وكل نبيّ أبو أمته.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير نحوه.
وأخرج ابن أبي الدنيا، وابن عساكر، عن السديّ نحوه. قال: وفي قراءة عبد الله: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم}.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن حذيفة بن اليمان، قال: عرض عليهم بناته تزويجاً، وأراد أن يقي أضيافه بتزويج بناته.
وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، في قوله: {وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى} قال: لا تفضحوني.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} قال: رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وأخرج أبو الشيخ، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} قال: واحد يقول لا إله إلا الله.
وأخرج أبو الشيخ، عن عكرمة مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} قال: إنما نريد الرجال {قَالَ} لوط {لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} يقول: إلى جند شديد لمقاتلتكم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، {أو آوى إلى ركن شديد} قال: عشيرة.
وقد ثبت في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يغفر الله للوط إن كان يأوي إلى ركن شديد» وهو مرويّ في غير الصحيح من طريق غيره من الصحابة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن عباس {بِقِطْعٍ مّنَ اليل} قال: جوف الليل.
وأخرجا عنه قال: بسواد الليل.
وأخرج عبد الرزاق، عن قتادة، قال: بطائفة من الليل.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} قال: لا يتخلف.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} قال: لا ينظر وراءه أحد {إِلاَّ امرأتك}.
وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، عن هارون قال: في حرف ابن مسعود: {فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك}.
وأخرج ابن جرير، عن مجاهد، في قوله: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا} قال: لما أصبحوا عدا جبريل على قريتهم، فقلعها من أركانها، ثم أدخل جناحه ثم حملها على خوافي جناحه بما فيها، ثم صعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم قلبها، فكان أوّل ما سقط منها سرادقها، فلم يصب قوماً ما أصابهم، ثم إن الله طمس على أعينهم، ثم قلبت قريتهم، وأمطر عليهم حجارة من سجيل.
وقد ذكر المفسرون روايات وقصصاً في كيفية هلاك قوم لوط طويلة متخالفة، وليس في ذكرها فائدة لا سيما وبين من قال بشيء من ذلك، وبين هلاك قوم لوط دهر طويل لا يتيسر له في مثله إسناد صحيح، وغالب ذلك مأخوذ عن أهل الكتاب، وحالهم في الرواية معروف.
وقد أمرنا بأنا لا نصدّقهم ولا نكذبهم، فاعرف هذا، فهو الوجه في حذفنا لكثير من هذه الروايات الكائنة في قصص الأنبياء وقومهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} قال: يرهب بها قريش أن يصيبهم ما أصاب القوم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في الآية قال: من ظلمة العرب إن لم يؤمنوا فيعذبوا بها.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، وابن أبي حاتم، عن قتادة قال: من ظالمي هذه الأمة.


أي وأرسلنا إلى مدين، وهم قوم شعيب، أخاهم في النسب شعيباً. وسموا مدين باسم أبيهم، وهو مدين ابن إبراهيم. وقيل: باسم مدينتهم. قال النحاس: لا ينصرف مدين لأنه اسم مدينة، وقد تقدّم الكلام على هذا في الأعراف بأبسط مما هنا، وقد تقدّم تفسير: {قَالَ يَاقَوْمٌ اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} في أوّل السورة، وهذه الجملة مستأنفة؛ كأنه قيل: ماذا قال لهم شعيب لما أرسله الله إليهم؟ وقد كان شعيب عليه السلام يسمى خطيب الأنبياء لحسن مراجعته لقومه، أمرّهم أوّلاً بعبادة الله سبحانه الذي هو الإله وحده لا شريك له، ثم نهاهم عن أن ينقصوا المكيال والميزان، لأنهم كانوا مع كفرهم أهل تطفيف، كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائد، وكذلك إذا وصل إليهم الموزون أخذوا بوزن زائد، وإذا باعوا باعوا بكيل ناقص ووزن ناقص؛ وجملة {إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} تعليل للنهي: أي لا تنقصوا المكيال والميزان لأني أراكم بخير: أي بثروة وسعة في الرزق، فلا تغيروا نعمة الله عليكم بمعصيته والإضرار بعباده، ففي هذه النعمة ما يغنيكم عن أخذ أموال الناس بغير حقها، ثم ذكر بعد هذه العلة علة أخرى، فقال: {وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} فهذه العلة فيها الإذكار لهم بعذاب الآخرة كما أن العلة الأولى فيها الإذكار لهم بنعيم الدنيا؛ ووصف اليوم بالإحاطة والمراد العذاب، لأن العذاب واقع في اليوم؛ ومعنى إحاطة عذاب اليوم بهم، أنه لا يشذ منهم أحد عنه، ولا يجدون منه ملجأ ولا مهرباً، واليوم: هو يوم القيامة، وقيل: هو يوم الانتقام منهم في الدنيا بالصيحة.
ثم أكد النهي عن نقص الكيل والوزن بقوله: {وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط} والإيفاء: هو الإتمام. والقسط: العدل، وهو عدم الزيادة والنقص وإن كان الزيادة على الإيفاء فضل وخير، ولكنها فوق ما يفيده اسم العدل، والنهي عن النقص، وإن كان يستلزم الإيفاء ففي تعاضد الدلالتين مبالغة بليغة وتأكيد حسن، ثم زاد ذلك تأكيداً فقال: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} قد مرّ تفسير هذا في الأعراف، وفيه النهي عن البخس على العموم، والأشياء أعمّ مما يكال ويوزن، فيدخل البخس بتطفيف الكيل والوزن في هذا دخولاً أوّلياً. وقيل: البخس: المكس خاصة، ثم قال: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ} قد مرّ أيضاً تفسيره في البقرة، والعثي في الأرض يشمل كل ما يقع فيها من الإضرار بالناس، فيدخل فيه ما في السياق من نقص المكيال والميزان، وقيده بالحال وهو قوله: {مُفْسِدِينَ} ليخرج ما كان صورته من العثي في الأرض، والمقصود به الإصلاح كما وقع من الخضر في السفينة {بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: ما يبقيه لكم من الحلال بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر خيراً وبركة مما تبقونه لأنفسكم من التطفيف والبخس، والفساد في الأرض، ذكر معناه ابن جرير وغيره من المفسرين.
وقال مجاهد: بقية الله: طاعته.
وقال الربيع: وصيته.
وقال الفراء: مراقبته، وإنما قيد ذلك بقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} لأن ذلك إنما ينتفع به المؤمن لا الكافر، أو المراد بالمؤمنين هنا: المصدّقون لشعيب {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أحفظكم من الوقوع في المعاصي من التطفيف والبخس وغيرهما، أو أحفظ عليكم أعمالكم، وأحاسبكم بها وأجازيكم عليها.
وجملة: {قَالُواْ يَاشُعَيْبٌ أصلواتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: فماذا قالوا لشعيب؟ وقرئ: {أصلاتك} بالإفراد، و{أن نترك} في موضع نصب.
وقال الكسائي: موضعها خفض على إضمار الباء، ومرادهم بما يعبد آباؤهم ما كانوا يعبدون من الأوثان، والاستفهام للإنكار عليه والاستهزاء به، لأن الصلوات عندهم ليست من الخير الذي يقال لفاعله عند إرادة تليين قلبه وتذليل صعوبته كما يقال لمن كان كثير الصدقة إذا فعل ما لا يناسب الصواب: أصدقتك أمرتك بهذا. وقيل: المراد بالصلاة هنا: القراءة. وقيل: المراد بها: الدين، وقيل: المراد بالصلوات: أتباعه، ومنه المصلى الذي يتلو السابق؛ وهذا منهم جواب لشعيب عن أمره لهم بعبادة الله وحده، وقولهم: {أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} جواب له عن أمرهم بإيفاء الكيل والوزن، ونهيهم عن نقصهما، وعن بخس الناس، وعن العثي في الأرض، وهذه الجملة معطوفة على {ما} في {ما يعبد آباؤنا}. والمعنى: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، وتأمرك أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء، من الأخذ والإعطاء، والزيادة والنقص. وقرئ: {تفعل ما تشاء} بالفوقية فيهما. قال النحاس: فتكون {أو} على هذه القراءة للعطف على أن الأولى، والتقدير: أصلواتك تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء. وقرئ: {نفعل} بالنون و{ما تشاء} بالفوقية، ومعناه: أصلواتك تأمرك أن نفعل نحن في أموالنا ما تشاؤه أنت وندع ما نشاؤه نحن وما يجري به التراضي بيننا؛ ثم وصفوه بوصفين عظيمين فقالوا: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} على طريقة التهكم به، لأنهم يعتقدون أنه على خلافهما، أو يريدون إنك لأنت الحليم الرشيد عند نفسك، وفي اعتقادك، ومعناهم: أن هذا الذي نهيتنا عنه وأمرتنا به يخالف ما تعتقده في نفسك من الحلم والرشد. وقيل: إنهم قالوا ذلك لا على طريقة الاستهزاء بل هو عندهم كذلك، وأنكروا عليه الأمر والنهي منه لهم بما يخالف الحلم والرشد في اعتقادهم.
وقد تقدّم تفسير الحلم والرشد.
وجملة: {قَالَ يَاقَوْمٌ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} مستأنفة كالجمل التي قبلها.
والمعنى: أخبروني إن كنت على حجة واضحة من عند ربي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه {وَرَزَقَنِى مِنْهُ} أي من فضله وخزائن ملكه {رِزْقًا حَسَنًا} أي: كثيراً واسعاً حلالاً طيباً، وقد كان عليه السلام كثير المال. وقيل: أراد بالرزق: النبوّة. وقيل: الحكمة، وقيل: العلم. وقيل: التوفيق، وجواب الشرط محذوف يدلّ عليه سياق الكلام تقديره: أترك أمركم ونهيكم، أو أتقولون في شأني ما تقولون مما تريدون به السخرية والاستهزاء {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ} أي: وما أريد بنهيي لكم عن التطفيف والبخس أن أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه فأفعله دونكم، يقال: خالفه إلى كذا إذا قصده وهو مولّ عنه، وخالفته عن كذا في عكس ذلك {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح} أي: ما أريد بالأمر والنهي إلا الإصلاح لكم، ودفع الفساد في دينكم ومعاملاتكم {مَا استطعت} ما بلغت إليه استطاعتي، وتمكنت منه طاقتي {وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بالله} أي: ما صرت موفقاً هادياً نبياً مرشداً إلا بتأييد الله سبحانه، وإقداري عليه ومنحي إياه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في جميع أموري التي منها أمركم ونهيكم {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي: أرجع في كل ما نابني من الأمور، وأفوّض جميع أموري إلى ما يختاره لي من قضائه وقدره، وقيل: معناه: وإليه أرجع في الآخرة. وقيل: إن الإنابة: الدعاء. ومعناه: وله أدعوا.
قوله: {وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى} قال الزجاج: معناه لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب إياكم، كما أصاب من كان قبلكم. وقيل: معناه: لا يحملنكم شقاقي، والشقاق: العداوة، ومنه قول الأخطل:
ألا من مبلغ عني رسولا *** فكيف وجدتم طعم الشقاق
و {أَن يُصِيبَكُمُ} في محل نصب على أنه مفعول ثان ليجرمنكم {مّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} من الغرق {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} من الريح {أَوْ قَوْمَ صالح} من الصيحة، وقد تقدّم تفسير يجرمنكم وتفسير الشقاق {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ} يحتمل أن يريد ليس مكانهم ببعيد من مكانكم، أو ليس زمانهم ببعيد من زمانكم، أو ليسوا ببعيد منكم في السبب الموجب لعقوبتهم، وهو مطلق الكفر، وأفرد لفظ {بَعِيدٍ} لمثل ما سبق في {وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ}.
ثم بعد ترهيبهم بالعذاب أمرهم بالاستغفار والتوبة، فقال: {واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ} وقد تقدّم تفسير الاستغفار مع ترتيب التوبة عليه في أوّل السورة، وتقدّم تفسير الرحيم، والمراد هنا: أنه عظيم الرحمة للتائبين، والودود: المحبّ. قال في الصحاح: وددت الرجل أودّه ودّاً: إذا أحببته، والودود المحب، والودّ والوُدّ والوَدّ: المحبة، والمعنى هنا: أنه يفعل بعباده ما يفعله من هو بليغ المودّة بمن يودّه من اللطف به، وسوق الخير إليه، ودفع الشرّ عنه.
وفي هذا تعليل لما قبله من الأمر بالاستغفار والتوبة.
جملة: {قَالُواْ ياشُعَيْبٌ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ} مستأنفة كالجمل السابقة، والمعنى: أنك تأتينا بما لا عهد لنا به من الإخبار بالأمور الغيبية، كالبعث والنشور، ولا نفقه ذلك: أي نفهمه كما نفهم الأمور الحاضرة المشاهدة، فيكون نفي الفقه على هذا حقيقة لا مجازاً. وقيل: قالوا ذلك إعراضاً عن سماعه، واحتقار الكلام مع كونه مفهوماً لديهم معلوماً عندهم، فلا يكون نفي الفقه حقيقة بل مجازاً، يقال: فقه يفقه: إذا فهم فِقْها وفَقها، وحكى الكسائي فقهانا، ويقال: فقه فقهاً: إذا صار فقيهاً {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} أي: لا قوّة لك تقدر بها على أن تمنع نفسك منا، وتتمكن بها من مخالفتنا. وقيل: المراد أنه ضعيف في بدنه، قاله عليّ بن عيسى. وقيل: إنه كان مصاباً ببصره. قال النحاس: وحكى أهل اللغة أن حمير تقول للأعمى: ضعيف، أي قد ضعف بذهاب بصره كما يقال له ضرير، أي قد ضرّ بذهاب بصره. وقيل: الضعيف: المهين، وهو قريب من القول الأوّل {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك} رهط الرجل: عشيرته الذين يستند إليهم، ويتقوّى بهم، ومنه الراهط لجحر اليربوع، لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده، والرهط يقع على الثلاثة إلى العشرة، وإنما جعلوا رهطه مانعاً من إنزال الضرر به مع كونهم في قلة، والكفار ألوف مؤلفة؛ لأنهم كانوا على دينهم، فتركوه احتراماً لهم لا خوفاً منهم، ثم أكدوا ما وصفوه به من الضعف بقولهم: {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} حتى نكفّ عنك لأجل عزتك عندنا، بل تركنا رجمك لعزة رهطك علينا، ومعنى {لرجمناك} لقتلناك بالرجم، وكانوا إذا قتلوا إنساناً رجموه بالحجارة وقيل: معنى {لرجمناك} لشتمناك، ومنه قول الجعدي:
تراجمنا بمرّ القول حتى *** نصير كأننا فرسا رهان
ويطلق الرجم على اللعن، ومنه الشيطان الرجيم، وجملة: {قَالَ يَاقَوْمٌ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله} مستأنفة، وإنما قال: أعزّ عليكم من الله، ولم يقل: أعزّ عليكم مني؛ لأن نفي العزّة عنه وإثباتها لقومه كما يدل عليه إيلاء الضمير حرف النفي استهانة به، والاستهانة بأنبياء الله استهانة بالله عزّ وجلّ، فقد تضمن كلامهم أن رهطه أعزّ عليه من الله، فاستنكر ذلك عليهم، وتعجب منه، وألزمهم ما لا مخلص لهم عنه، ولا مخرج لهم منه بصورة الاستفهام، وفي هذا من قوّة المحاجة ووضوح المجادلة وإلقام الخصم الحجر ما لا يخفى، ولأمر ما سمي شعيب خطيب الأنبياء، والضمير في {واتخذتموه} راجع إلى الله سبحانه. والمعنى: واتخذتم الله عزّ وجلّ بسبب عدم اعتدادكم بنبيه الذي أرسله إليكم {وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً} أي: منبوذاً وراء الظهر لا تبالون به. وقيل: المعنى: واتخذتم أمر الله الذي أمرني بإبلاغه إليكم، وهو ما جئتكم به وراء ظهوركم، يقال: جعلت أمره بظهر: إذا قصرت فيه، و{ظِهْرِيّاً} منسوب إلى الظهر، والكسر لتغيير النسب {إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم.
{وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنّى عامل سَوْفَ تَعْلَمُونَ} لما رأى إصرارهم على الكفر وتصميمهم على دين آبائهم، وعدم تأثير الموعظة فيهم، توعدهم بأن يعملوا على غاية تمكنهم ونهاية استطاعتهم، يقال: مكن مكانة: إذا تمكن أبلغ تمكن، وأخبرهم أنه عامل على حسب ما يمكنه ويقدّر الله له، ثم بالغ في التهديد والوعيد بقوله: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي: عاقبة ما أنتم فيه من عبادة غير الله والإضرار بعباده، وقد تقدّم مثله في الأنعام {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} {من} في محل نصب ب {تعلمون}: أي: سوف تعلمون من هو الذي يأتيه العذاب المخزي الذي يتأثر عنه الذلّ والفضيحة والعار {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} معطوف على {من يأتيه}؛ والمعنى: ستعلمون من هو المعذب ومن هو الكاذب؟ وفيه تعريض بكذبهم في قولهم: {لَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}. وقيل: إن {من} مبتدأ، وما بعدها صلتها، والخبر محذوف، والتقدير: من هو كاذب فسيعلم كذبه ويذوق وبال أمره. قال الفراء: إنما جاء بهو في {مَنْ هُوَ كاذب} لأنهم لا يقولون من قائم، إنما يقولون: من قام، ومن يقوم، ومن القائم، فزادوا هو ليكون جملة تقوم مقام فعل ويفعل. قال النحاس: ويدل على خلاف هذا قول الشاعر:
من رسولي إلى الثريا فإني *** ضقت ذرعاً بهجرها والكتاب
{وارتقبوا إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ} أي: انتظروا إني معكم منتظر لما يقضي به الله بيننا {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ} أي: لما جاء عذابنا، أو أمرنا بعذابهم، نجينا شعيباً وأتباعه الذين آمنوا به {بِرَحْمَةٍ مّنَّا} لهم بسبب إيمانهم، أو برحمة منا لهم: وهي هدايتهم للإيمان {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ} غيرهم بما أخذوا من أموالهم بغير وجه، وظلموا أنفسهم بالتصميم على الكفر {الصيحة} التي صاح بهم جبرائيل حتى خرجت أرواحهم من أجسادهم، وفي الأعراف {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} [الأعراف: 78] وكذا في العنكبوت.
وقد قدّمنا أن الرجفة: الزلزلة، وأنها تكون تابعة للصيحة لتموّج الهوى المفضي إليها {فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين} أي: ميتين، وقد تقدّم تفسيره وتفسير {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} قريباً، وكذا تفسير {أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} وحكى الكسائي أن أبا عبد الرحمن السلمي قرأ: {كما بعدت ثمود} بضم العين. قال المهدوي: من ضم العين من {بعدت} فهي لغة تستعمل في الخير والشرّ، و{بعدت} بالكسر على قراءة الجمهور تستعمل في الشرّ خاصة، وهي هنا بمعنى اللعنة.
وقد أخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} قال: رخص السعر {وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} قال: غلاء السعر، وأخرج ابن جرير، عنه {بَقِيَّتُ الله} قال: رزق الله.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة {بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ} يقول: حظكم من ربكم خير لكم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال: طاعة الله.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الأعمش في قوله: {أصلواتك تَأْمُرُكَ} قال: أقراءتك.
وأخرج ابن عساكر، عن الأحنف: أن شعيباً كان أكثر الأنبياء صلاة.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن زيد، في قوله: {أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} قال: نهاهم عن قطع هذه الدنانير والدراهم فقالوا: إنما هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء، إن شئنا قطعناها، وإن شئنا أحرقناها، وإن شئنا طرحناها.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن محمد بن كعب نحوه.
وأخرجا عن زيد بن أسلم نحوه أيضاً.
وأخرج عبد الرزاق، وابن سعد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وعبد بن حميد، عن سعيد بن المسيب، نحوه أيضاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} قال: يقولون إنك لست بحليم ولا رشيد.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة قال: استهزاء به.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك، في قوله: {وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} قال: الحلال.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ} قال: يقول لم أكن لأنهاكم عن أمر وأركبه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} قال: إليه أرجع.
وأخرج أبو نعيم في الحلية، عن عليّ، قال: قلت: يا رسول، الله أوصني، قال: «قل الله ربي ثم استقم»، قلت: ربي الله وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، قال: «ليهنك العلم أبا الحسن، لقد شربت العلم شرباً ونهلته نهلاً» وفي إسناده محمد بن يوسف الكديمي.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى} لا يحملنكم فراقي.
وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد، قال: شقاقي عداوتي.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ قال: لا تحملنكم عداوتي.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة، في قوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ} قال: إنما كانوا حديثي عهد قريب بعد نوح وثمود.
وأخرج أبو الشيخ، وابن عساكر، عن سعيد بن جبير {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} قال: كان أعمى، وإنما عمي من بكائه من حبّ الله عزّ وجلّ.
وأخرج الواحدي، وابن عساكر، عن شدّاد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بكى شعيب عليه السلام من حبّ الله حتى عمي».
وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والخطيب، وابن عساكر من طرق، عن ابن عباس، في قوله: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} قال: كان ضرير البصر.
وأخرج أبو الشيخ، عن أبي صالح، مثله.
وأخرج أبو الشيخ، عن سفيان في قوله: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} قال: كان أعمى، وكان يقال له خطيب الأنبياء.
وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، قال: معناه إنما أنت واحد.
وأخرج أبو الشيخ، عن عليّ بن أبي طالب، أنه خطب فتلا هذه الآية في شعيب {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} قال: كان مكفوفاً، فنسبوه إلى الضعف {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك} قال عليّ: فوالله الذي لا إله غيره ما هابوا جلال ربهم ما هابوا إلا العشيرة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {واتخذتموه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً} قال: نبذتم أمره.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة، قال في الآية: لا تخافونه.
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال: تهاونتم به.


المراد بالآيات: التوراة، والسلطان المبين: المعجزات. وقيل: المراد بالآيات: هي التسع المذكورة في غير هذا الموضع، والسلطان المبين: العصا، وهي وإن كانت من التسع لكنها لما كانت أبهرها أفردت بالذكر؛ وقيل: المراد بالآيات: ما يفيد الظنّ، والسلطان المبين ما يفيد القطع بما جاء به موسى؛ وقيل: هما جميعاً عبارة عن شيء واحد: أي أرسلناه بما يجمع وصف كونه آية، وكونه سلطاناً مبيناً؛ وقيل إن السلطان المبين: ما أورده موسى على فرعون في المحاورة بينهما {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِه} أي: أرسلناه بذلك إلى هؤلاء.
وقد تقدّم أن الملأ أشراف القوم، وإنما خصهم بالذكر دون سائر القوم، لأنهم أتباع لهم في الإصدار والإيراد، وخصّ هؤلاء الملأ دون فرعون بقوله: {فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} أي: أمره لهم بالكفر، لأن حال فرعون في الكفر أمر واضح، إذ كفر قومه من الأشراف وغيرهم إنما هو مستند إلى كفره، ويجوز أن يراد بأمر فرعون شأنه وطريقته، فيعمّ الكفر وغيره {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي: ليس فيه رشد قط، بل هو: غيّ وضلال، والرشيد بمعنى المرشد، والإسناد مجازي، أو بمعنى ذي رشد، وفيه تعريض بأن الرشد في أمر موسى {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة} من قدمه بمعنى تقدّمه: أي يصير متقدّماً لهم يوم القيامة سابقاً لهم إلى عذاب النار، كما كان يتقدّمهم في الدنيا {فَأَوْرَدَهُمُ النار} أي: إنه لا يزال متقدّماً لهم، وهم يتبعونه حتى يوردهم النار، وعبر بالماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه، ثم ذمّ الورد الذي أوردهم إليه، فقال: {وَبِئْسَ الورد المورود} لأن الوارد إلى الماء الذي يقول له الورد، إنما يرده ليطفئ حرّ العطش، ويذهب ظمأه، والنار على ضدّ ذلك.
ثم ذمهم بعد ذمّ المكان الذي يردونه، فقال: {وَأُتْبِعُواْ فِى هذه لَعْنَةً} أي: أتبع قوم فرعون مطلقاً، أو الملأ خاصة، أو هم وفرعون في هذه الدنيا لعنة عظيمة: أي طرداً وإبعاداً {وَيَوْمَ القيامة} أي: وأتبعوا لعنة يوم القيامة، يلعنهم أهل المحشر جميعاً، ثم إنه جعل اللعنة رفداً لهم على طريقة التهكم، فقال: {بِئْسَ الرفد المرفود}. قال الكسائي وأبو عبيدة: رفدته أرفده رفداً: أمنته وأعطيته، واسم العطية الرفد: أي بئس العطاء، والإعانة ما أعطوهم إياه، وأعانوهم به، والمخصوص بالذمّ محذوف: أي رفدهم، وهو: اللعنة التي أتبعوها في الدنيا والآخرة، كأنها لعنة بعد لعنة تمدّ الأخرى الأولى وتؤبدها. وذكر الماوردي حكاية عن الأصمعي أن الرفد بالفتح: القدح، وبالكسر: ما فيه من الشراب فكأنه ذمّ ما يستقونه في النار، وهذا أنسب بالمقام. وقيل: إن الرفد: الزيادة: أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق، وهو الزيادة قاله الكلبي.
والإشارة بقوله: {ذلك مِنْ أَنْبَاء القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} أي: ما قصه الله سبحانه في هذه السورة من أخبار الأمم السالفة، وما فعلوه مع أنبيائهم، أي هو مقصوص عليك خبر بعد خبر، وقد تقدّم تحقيق معنى القصص، والضمير في {منها} عائد إلى {القرى}: أي من القرى قائم، ومنها حصيد، والقائم: ما كان قائماً على عروشه، والحصيد: ما لا أثر له. وقيل القائم: العامر، والحصيد: الخراب. وقيل: القائم: القرى الخاوية على عروشها، والحصيد: المستأصل بمعنى محصود، شبه القرى بالزرع القائم على ساقه والمقطوع. قال الشاعر:
والناس في قسم المنية بينهم *** كالزرع منه قائم وحصيد
{وَمَا ظلمناهم} بما فعلنا بهم من العذاب {ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بالكفر والمعاصي {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ} أي: فما دفعت عنهم أصنامهم التي يعبدونها من دون الله شيئاً من العذاب {لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ} أي: لما جاء عذابه {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}: الهلاك والخسران: أي ما زادتهم الأصنام التي يعبدونها إلا هلاكاً وخسراناً، وقد كانوا يعتقدون أنها تعينهم على تحصيل المنافع {وكذلك أَخْذُ رَبّكَ} قرأ الجحدري وطلحة بن مصرف {أخذ} على أنه فعل. وقرأ غيرهما {أخذ} على المصدر {إِذَا أَخَذَ القرى وَهِىَ ظالمة} أي: أهلها وهم ظالمون {إِنَّ أَخْذَهُ} أي: عقوبته للكافرين {أَلِيمٌ شَدِيدٌ} أي: موجع غليظ {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً} أي: في أخذ الله سبحانه لأهل القرى، أو في القصص الذي قصه على رسوله لعبرة وموعظة {لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة} لأنهم الذين يعتبرون بالعبر، ويتعظون بالمواعظ، والإشارة بقوله: {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة أن يجمع فيه الناس للمحاسبة والمجازاة {وَذَلِكَ} أي: يوم القيامة {يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} أي: يشهده أهل المحشر، أو مشهود فيه الخلائق، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول {وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} أي: وما نؤخر ذلك اليوم إلا لانتهاء أجل معدود معلوم بالعدد، قد عيّن الله سبحانه وقوع الجزاء بعده {يَوْمَ يَأْتِ} قرأ أهل المدينة وأبو عمرو، والكسائي بإثبات الياء في الدرج، حذفها في الوقف. وقرأ أبيّ، وابن مسعود بإثباتها وصلاً ووقفاً. وقرأ الأعمش بحذفها فيهما، ووجه حذف الياء مع الوقف ما قاله الكسائي: أن الفعل السالم يوقف عليه كالمجزوم فحذفت الياء كما تحذف الضمة. ووجه قراءة من قرأ بحذف الياء مع الوصل: أنهم رأوا رسم المصحف كذلك.
وحكى الخليل وسيبويه أن العرب تقول: لا أدر، فتحذف الياء وتجتزئ بالكسر، وأنشد الفراء في حذف الياء:
كفاك كف ما تليق درهما *** جوداً وأخرى تعط بالسيف الدما
قال الزجاج: والأجود في النحو إثبات الياء، والمعنى: حين يأتي يوم القيامة {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} أي: لا تتكلم حذفت إحدى التاءين تخفيفاً: أي لا تتكلم فيه نفس إلا بما أذن لها من الكلام.
وقيل: لا تكلم بحجة ولا شفاعة {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} سبحانه لها في التكلم بذلك، وقد جمع بين هذا وبين قوله: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35، 36] باختلاف أحوالهم باختلاف مواقف القيامة.
وقد تكرّر مثل هذا الجمع في مواضع {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} أي: من الأنفس شقيّ، ومنهم سعيد. فالشقيّ: من كتبت عليه الشقاوة، والسعيد: من كتبت له السعادة، وتقديم الشقيّ على السعيد لأن المقام مقام تحذير {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِى النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} أي: فأما الذين سبقت لهم الشقاوة، فمستقرّون في النار لهم فيها زفير وشهيق. قال الزجاج: الزفير من شدّة الأنين، وهو المرتفع جداً. قال: وزعم أهل اللغة من البصريين والكوفيين: أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير، والشهيق: بمنزلة آخره. وقيل الزفير: الصوت الشديد، والشهيق: الصوت الضعيف. وقيل الزفير: إخراج النفس، والشهيق: ردّ النفس. وقيل: الزفير من الصدر، والشهيق: من الحلق. وقيل الزفير: ترديد النفس من شدّة الخوف، والشهيق: النفس الطويل الممتد، والجملة إما مستأنفة كأنه قيل: ما حالهم فيها؟ أو في محل نصب على الحال {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض} أي: مدّة دوامهما.
وقد اختلف العلماء في بيان معنى هذا التوقيت، لأنه قد علم بالأدلة القطعية تأييد عذاب الكفار في النار، وعدم انقطاعه عنهم، وثبت أيضاً أن السموات والأرض تذهب عند انقضاء أيام الدنيا، فقالت طائفة: إن هذا الإخبار جار على ما كانت العرب تعتاده إذا أرادوا المبالغة في دوام الشيء، قالوا: هو دائم ما دامت السموات والأرض، ومنه قولهم: لا آتيك ما جنّ ليل، وما اختلف الليل والنهار، وما ناح الحمام ونحو ذلك. فيكون معنى الآية: أنهم خالدون فيها أبداً لا انقطاع لذلك ولا انتهاء له. وقيل: إن المراد: سموات الآخرة وأرضها، فقد ورد ما يدل على أن للآخرة سموات وأرضاً غير هذه الموجودة في الدنيا، وهي دائمة بدوام دار الآخرة، وأيضاً لا بدّ لهم من موضع يقلهم وآخر يظلهم، وهما أرض وسماء.
قوله: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} قد اختلف أهل العلم في معنى هذا الاستثناء على أقوال: الأوّل: أنه من قوله: {فَفِى النار} كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك. روي هذا أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري. الثاني: أن الاستثناء إنما هو للعصاة من الموحدين، وأنهم يخرجون بعد مدّة من النار، وعلى هذا يكون قوله سبحانه: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ} عاماً في الكفرة والعصاة، ويكون الاستثناء من {خالدين} وتكون {ما} بمعنى من، وبهذا قال قتادة، والضحاك، وأبو سنان، وغيرهم.
وقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواتراً يفيد العلم الضروري بأنه يخرج من النار أهل التوحيد، فكان ذلك مخصصاً لكل عموم. الثالث: أن الاستثناء من الزفير والشهيق: أي لهم فيها زفير وشهيق {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} من أنواع العذاب غير الزفير والشهيق، قاله ابن الأنباري. الرابع أن معنى الاستثناء: أنهم خالدون فيها ما دامت السموات والأرض، لا يموتون إلا ما شاء ربك، فإنه يأمر النار فتأكلهم حتى يفنوا، ثم يجدّد الله خلقهم، روي ذلك عن ابن مسعود. الخامس: أن {إلا} بمعنى سوى، والمعنى: ما دامت السموات والأرض سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود، كأنه ذكر في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له حكاه الزجاج. السادس: ما روي عن الفراء وابن الأنباري وابن قتيبة من أن هذا لا ينافي عدم المشيئة كقولك: والله لأضربنه إلا أن أرى غير ذلك، ونوقش هذا بأن معنى الآية الحكم بخلودهم إلا لمدة التي شاء الله، فالمشيئة قد حصلت جزماً؛ وقد حكي هذا القول الزجاج أيضاً. السابع: أن المعنى: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من مقدار موقفهم في قبوركم وللحساب، حكاه الزجاج أيضاً. الثامن: أن المعنى: خالدين فيها إلا ما شاء ربك من زيادة النعيم لأهل النعيم وزيادة العذاب لأهل الجحيم؛ حكاه أيضاً الزجاج، واختاره الحكيم الترمذي. التاسع: أن {إلا} بمعنى الواو، قاله الفراء؛ والمعنى: وما شاء ربك من الزيادة، قال مكي: وهذا القول بعيد عند البصريين أن تكون إلا بمعنى الواو. العاشر: أن {إلا} بمعنى الكاف، والتقدير: كما شاء ربك، ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] أي: كما قد سلف. الحادي عشر: أن هذا الاستثناء إنما هو على سبيل الاستثناء الذي ندب إليه الشارع في كل كلام، فهو على حدّ قوله: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله ءامِنِينَ} [الفتح: 27] روى نحو هذا عن أبي عبيد، وهذه الأقوال هي جملة ما وقفنا عليه من أقوال أهل العلم.
وقد نوقش بعضها بمناقشات، ودفعت بدفوعات.
وقد أوضحت ذلك في رسالة مستقلة جمعتها في جواب سؤال ورد من بعض الأعلام.
{وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض} قرأ الأعمش، وحفص، وحمزة، والكسائي {سعدوا} بضم السين، وقرأ الباقون بفتح السين، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. قال سيبويه: لا يقال: سعد فلان، كما لا يقال: شقي فلان؛ لكونه مما لا يتعدى، قال النحاس: ورأيت عليّ بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي بضم السين مع علمه بالعربية، وهذا لحن لا يجوز، ومعنى الآية كما مرّ في قوله: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ} قوله: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} قد عرف من الأقوال المتقدّمة ما يصلح لحمل هذا الاستثناء عليه {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي: يعطيهم الله عطاء غير مجذوذ، والمجذوذ: المقطوع، من جذه يجذه إذا قطعه، والمعنى: أنه ممتدّ إلى غير نهاية.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة} يقول: أضلهم فأوردهم النار.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن قتادة، في الآية قال: فرعون يمضي بين أيدي قومه حتى يهجم بهم على النار.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {فَأَوْرَدَهُمُ النار} قال: الورود: الدخول.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {بِئْسَ الرفد المرفود} قال: لعنة الدنيا والآخرة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} يعني: قرى عامرة وقرى خامدة.
وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة: {منها قائم} يرى مكانه، و{حصيد} لا يرى له أثر.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن جريج: {منها قائم} خاو على عروشه، و{حصيد} ملصق بالأرض.
وأخرج أبو الشيخ، عن أبي عاصم {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ} قال: ما نفعت.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن عمر، في قوله: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أي: هلكة.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن زيد قال: تخسير.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة معناه.
وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله سبحانه وتعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»، ثم قرأ: {وكذلك أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِىَ ظالمة إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}.
وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد، في قوله: {إِنَّ فِى ذلك لآيَةً لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة} يقول: إنا سوف نفي لهم بما وعدناهم في الآخرة كما وفينا للأنبياء أنا ننصرهم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} قال: يوم القيامة.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد، مثله.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: {يَوْمَ يَأْتِ} قال: ذلك اليوم.
وأخرج الترمذي وحسنه، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عمر بن الخطاب، قال: لما نزلت: {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} قلت: يا رسول الله، فعلام نعمل، على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال: «بل على شيء قد فرغ منه، وجرت به الأقلام يا عمر، ولكن كلّ ميسر لما خلق له».
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: هاتان من المخبآت، قول الله: {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} و{يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا} [المائدة: 109] أما قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} فهم قوم من أهل الكتاب من أهل هذه القبلة يعذبهم الله بالنار ما شاء بذنوبهم، ثم يأذن في الشفاعة لهم، فيشفع لهم المؤمنون فيخرجهم من النار فيدخلهم الجنة، فسماهم أشقياء حين عذبهم في النار {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِى النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} حين أذن في الشفاعة لهم، وأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة وهم هم {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ} يعني بعد الشقاء الذي كانوا فيه {فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} يعني: الذين كانوا في النار.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن قتادة أنه تلا هذه الآية: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ} فقال: حدّثنا أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج قوم من النار ولا نقول كما قال أهل حروراء: إن من دخلها بقي فيها».
وأخرج ابن مردويه، عن جابر، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ} إلى قوله: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن شاء الله أن يخرج أناساً من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن خالد بن معدان في قوله: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} قال: إنها في التوحيد من أهل القبلة.
وأخرج عبد الرزاق، وابن الضريس، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله، أو عن أبي سعيد الخدري، أو رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، في قوله: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} قال: هذه الآية قاضية على القرآن كله، يقول حيث كان في القرآن خالدين فيها تأتي عليه.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي عن أبي نضرة، قال: ينتهي القرآن كله إلى هذه الآية: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ}.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {مَا دَامَتِ السموات والأرض} قال: لكل جنة سماء وأرض.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ، نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن، نحوه أيضاً.
وأخرج البيهقي في البعث والنشور، عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} قال: فقد شاء ربك أن يخلد هؤلاء في النار، وأن يخلد هؤلاء في الجنة.
وأخرج ابن جرير، عنه، في قوله: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} قال: استثنى الله من النار أن تأكلهم.
وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، في الآية قال: فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها، فأنزل بالمدينة: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً} [النساء: 168] إلى آخر الآية، فذهب الرجاء لأهل النار أن يخرجوا منها، وأوجب لهم خلود الأبد. وقوله: {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ} الآية. قال: فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها، فأنزل بالمدينة: {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جنات} إلى قوله: {ظِلاًّ ظَلِيلاً} [النساء: 57] فأوجب لهم خلود الأبد.
وأخرج ابن المنذر، عن الحسن، قال: قال عمر: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج، لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه.
وأخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ} الآية.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن إبراهيم، قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} قال: وقال ابن مسعود: ليأتينّ عليها زمان تخفق أبوابها.
وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمراناً وأسرعهما خراباً.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} قال: الله أعلم بتثنيته على ما وقعت.
وقد روي عن جماعة من السلف مثل ما ذكره عمر، وأبو هريرة، وابن مسعود، كابن عباس، وعبد الله بن عمر، وجابر، وأبي سعيد من الصحابة، وعن أبي مجلز وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهما من التابعين. وورد في ذلك حديث في معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي، وإسناده ضعيف. ولقد تكلم صاحب الكشاف في هذا الموضع بما كان له في تركه سعة، وفي السكوت عنه غنى، فقال: ولا يخدعنك قول المجبرة إن المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار، فإن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم، وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روي لهم بعض الثوابت عن ابن عمرو: ليأتينّ على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد. ثم قال: وأقول: ما كان لابن عمرو في سيفيه ومقاتلته بهما عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ما يشغله عن تسيير هذا الحديث. انتهى.
وأقول: أما الطعن على من قال بخروج أهل الكبائر من النار، فالقائل بذلك يا مسكين رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما صح عنه في دواوين الإسلام التي هي دفاتر السنة المطهرة، وكما صحّ عنه في غيرها من طريق جماعة من الصحابة يبلغون عدد التواتر؛ فمالك والطعن على قوم عرفوا ما جهلته، وعملوا بما أنت عنه في مسافة بعيدة، وأيّ مانع من حمل الاستثناء على هذا الذي جاءت به الأدلة الصحيحة الكثيرة، كما ذهب إلى ذلك وقال به جمهور العلماء من السلف والخلف.
وأما ما ظننته من أن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم، ويسجل بافترائهم، فلا مناداة ولا مخالفة، وأيّ: مانع من حمل الاستثناء في الموضعين على العصاة من هذه الأمة، فالاستثناء الأوّل: يحمل على معنى {إلا ما شاء ربك} من خروج العصاة من هذه الأمة من النار، والاستثناء الثاني: يحمل على معنى {إلا ما شاء ربك} من عدم خلودهم في الجنة كما يخلد غيرهم، وذلك لتأخر خلودهم إليها مقدار المدّة التي لبثوا فيها في النار.
وقد قال بهذا من أهل العلم من قدّمنا ذكره، وبه قال ابن عباس حبر الأمة. وأما الطعن على صاحب رسول الله، وحافظ سنته، وعابد الصحابة، عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، فإلى أين يا محمود، أتدري ما صنعت، وفي أيّ واد وقعت، وعلى أي جنب سقطت؟ ومن أنت حتى تصعد إلى هذا المكان، وتتناول نجوم السماء بيديك القصيرة، ورجلك العرجاء، أما كان لك في مكسري طلبتك من أهل النحو واللغة ما يردك عن الدخول فيما لا تعرف، والتكلم بما لا تدري، فيالله العجب ما يفعل القصور في علم الرواية، والبعد عن معرفتها إلى أبعد مكان من الفضيحة لمن لم يعرف قدر نفسه، ولا أوقفها حيث أوقفها الله سبحانه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5